محاولة اغتيال ترامب- لحظة فارقة تكشف استقطاب أمريكا وانقسامها

المؤلف: د. خليل العناني10.20.2025
محاولة اغتيال ترامب- لحظة فارقة تكشف استقطاب أمريكا وانقسامها

محاولات الاغتيال التي تستهدف السياسيين تعد حدثًا استثنائيًا، لا سيما في الأنظمة الديمقراطية التي يفترض بها أن تحسم نزاعاتها وصراعاتها السياسية عبر الوسائل السلمية، وفي مقدمتها صناديق الاقتراع. ومع ذلك، تمتلك الولايات المتحدة تاريخًا حافلًا بعمليات الاغتيال، خصوصًا التي طالت رؤساء وزعماء بارزين، بدءًا من اغتيال الرئيس السادس عشر أبراهام لينكولن في الرابع عشر من أبريل/نيسان عام 1865، وصولًا إلى اغتيال الرئيس الخامس والثلاثين جون إف كينيدي في الثاني والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1963، هذا فضلًا عن المحاولات الفاشلة الأخرى، والتي كان آخرها محاولة اغتيال الرئيس الأسبق رونالد ريغان في أواخر شهر مارس/آذار عام 1981.

لكن ما شهده الرئيس السابق دونالد ترامب في يوم السبت الموافق الثالث عشر من يوليو/تموز، سيظل بلا شك لحظة مفصلية في مسيرته السياسية وفي تاريخ الولايات المتحدة بأكملها، إذ يعكس هذا الحدث بشكل جلي الأوضاع التي مرت بها البلاد خلال السنوات الأخيرة، من احتقان وتوتر بلغا أوجهما في هذه الواقعة.

إن ما تعرض له ترامب ليس مجرد محاولة اغتيال أخرى غير ناجحة على غرار ما حدث مع رؤساء أمريكيين آخرين أو نوابهم - بمن فيهم ترامب نفسه الذي واجه عدة محاولات اغتيال خلال ولايته الرئاسية الأولى وأُحبطت قبل تنفيذها - بل هو تجسيد حقيقي وانعكاس صادق للطبيعة السياسية التي تسود أمريكا خلال العقدين الأخيرين، والتي يُتوقع لها أن تزداد حدة وتفاقمًا خلال السنوات المقبلة. ويمكن اختصار هذا الواقع في ثلاث ركائز أساسية: الاستقطاب السياسي الحاد، والانقسام الأيديولوجي العميق، والإفلاس النخبوي الصارخ.

  • يتجلى الاستقطاب السياسي في الخلافات المتجذرة بين الحزبين الرئيسيين: الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري، سواء على مستوى رسم السياسات أو على مستوى الخطاب السياسي المستخدم.
  • فعلى صعيد السياسات، تدهور مستوى التوافق والتعاون بين الطرفين في أروقة الكونغرس الأميركي حول القضايا التي تخدم مصالح الأمة، مما أدى إلى شلل في عمل الحكومة الفيدرالية وكاد أن يتسبب في إعلان إفلاسها في أكثر من مناسبة خلال العقد المنصرم، وذلك نتيجة للعناد والتعصب.
  • أما على مستوى الخطاب، فقد انحدر إلى مستويات مؤسفة من التراشق اللفظي والتحريض المتبادل وتشويه صورة كل طرف للآخر. لذلك، ليس من المستغرب أن نرى بعض الجمهوريين يوجهون أصابع الاتهام نحو بايدن، مُحمّلين إياه مسؤولية محاولة اغتيال ترامب، معتبرين إياه المحرض الرئيسي على هذا العمل المشين بسبب خطابه الذي وصم ترامب واعتبره خطرًا يهدد الأمة والديمقراطية الأميركية.

في المقابل، لم يتوان ترامب عن استخدام لغة حادة ومستفزة وصلت إلى حد التهديد بـ "حمام دم" في حال خسر الانتخابات المقبلة، كما أنه وفر غطاءً للكثير من أعمال العنف التي شهدتها فترة رئاسته، وأبرزها حادثة اقتحام مبنى الكونغرس الأميركي في السادس من يناير/كانون الثاني عام 2021.

  • أما الانقسام الأيديولوجي، فقد بات السمة الأكثر وضوحًا في المشهد السياسي الأميركي خلال العقدين الأخيرين، وخاصة منذ وصول ترامب إلى السلطة عام 2016، الذي أدخل البلاد في دوامة من سياسات الهوية على نحو غير مسبوق. فقد انقسم المجتمع بشكل عمودي وأفقي، واختُصر هذا الانقسام في شعار "لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى" الذي أطلق شرارة ميلاد تيار جديد داخل الحزب الجمهوري يُعرف بتيار "ماغا" (MAGA) أو اليمين المتشدد، الذي يتعامل مع قضايا الحكم والإدارة من منظور أيديولوجي وعقائدي وهوياتي ضيق، بدءًا من قضية التغير المناخي، ووصولًا إلى حق حمل السلاح، مرورًا بقضايا الإجهاض، والحدود، والمهاجرين، واللاجئين.

وفي المقابل، شهد الحزب الديمقراطي صعودًا لتيار اليسار التقدمي خلال فترة حكم الرئيس السابق باراك أوباما، الذي تبنى أجندة اعتبرها الجمهوريون والمحافظون تهديدًا لقيمهم ومبادئهم، مثل حقوق المثليين، والمتحولين جنسيًا، وحق الإجهاض .. وغيرها. بمعنى آخر، شهدت أميركا تراجعًا ملحوظًا للتيار الوسطي، وازديادًا في قوة التيارات المتطرفة، يمينًا ويسارًا.

أما الإفلاس النخبوي، فقد تجسد بصورة جلية في مشهد المناظرة الرئاسية التي جمعت بين بايدن وترامب، والتي كشفت عن حالة الجدب السياسي والتدهور الحزبي التي تعاني منها أميركا. فمن بين أكثر من 340 مليون نسمة، بدت الأمة الأميركية عاجزة عن تقديم مرشحين أكفاء لتولي زمام السلطة. فبايدن وترامب هما الأكبر سنًا بين المرشحين في تاريخ الولايات المتحدة، وهما الأقل أهلية، سواء من الناحية الصحية والذهنية بالنسبة لبايدن، أو من الناحية السياسية والأخلاقية بالنسبة لترامب.

وهذا يؤكد مجددًا مدى هيمنة النخب الحزبية وجماعات الضغط المالي والتجاري وصناعة السلاح على عملية اختيار المرشحين، بغض النظر عن إرادة الشعب الأميركي وتطلعاته.

إذا كان ترامب يتمتع بفرص كبيرة للفوز بالرئاسة في شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل قبل تعرضه لمحاولة الاغتيال، فإن هذه الفرص قد تعززت بشكل ملحوظ بعد هذا الحادث، بينما تراجعت في المقابل فرص بايدن والحزب الديمقراطي في تحقيق الفوز.

فقد ساهمت محاولة الاغتيال في ترسيخ صورة "الضحية" التي يعشقها ترامب، والتي سعى إلى وضع نفسه في هذا الإطار طيلة السنوات الثماني الماضية، فوصف نفسه بأنه ضحية "الدولة العميقة"، وضحية بايدن وحزبه، وضحية وسائل الإعلام الليبرالية .. وغيرها.

كما أظهرته هذه الواقعة أمام أنصاره وغيرهم في صورة البطل الذي يتحدى قوانين الكون، ويقف في وجه بايدن والمؤسسات الأميركية والإعلام مدافعًا عنهم، بل إنه على استعداد للتضحية بحياته من أجل تحقيق مطالبهم وأهدافهم، وهو الآن بالنسبة إليهم أقرب إلى الأسطورة التي يحميها القدر من "الأعداء". لا شك أن صورته بعد محاولة الاغتيال، وهو يرفع قبضته اليمنى في الهواء، ووجهه ملطخ بالدماء، ستصبح بمثابة "أيقونة" تجسد روح المثابرة والتحدي.

وستؤدي هذه المحاولة أيضًا إلى زيادة حجم الدعم السياسي والمالي والإعلامي الذي يحظى به ترامب، وقد تجلى ذلك بالفعل، حيث أعلن الملياردير "إيلون ماسك"، مالك منصة "إكس"، عن دعمه السياسي له بعد مرور خمس ساعات فقط على محاولة الاغتيال، وتعهد بتقديم دعم لحملته الانتخابية يقدر بحوالي 45 مليون دولار شهريًا حتى شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.

وعلى أية حال، فإن ما جرى عصر يوم السبت الماضي في مدينة "بتلر" بولاية بنسلفانيا، عندما أقدم الشاب توماس كروكس على محاولة اغتيال ترامب، يمثل علامة فارقة في مسيرة ترامب السياسية، ويضعها ويضع معها أميركا أمام منعطف تاريخي جديد سيحدد مسار البلاد لسنوات طويلة، وربما لعقود قادمة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة